الأربعاء، 25 أبريل 2012

مقدمة المباهلة (1)

                                  مقدمة المباهلة
                 
                                بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على حبيب إله العالمين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعداء الله ظالميهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين .
   هذه صحيفةٌ مختَصَرةٌ ، كتبتها في ظَرفٍ استثنائي ، كما أنَّ المطالبة التي اشتملت عليها هذه الصحيفة هي مطالبةٌ استثنائيةٌ ، وهي المطالبة بالمباهلة .
   وقد يعجب القارئ أو تذهب به الظنون والحسابات ، متوَّهماً أن كاتب هذه الأسطر ، قد سيطرت عليه مشاعر ملتوية ، ويريد أن يجعل من المباهلة علاجاً وحلَّاً لما يَعترضنا من إشكاليات وخلافات .
   وأقول : ليس الأمر كما يحسبه صاحب هذا التبادر ؛ فإنَّ هناك خلافات وخلافات ، أو خلافات تهون إلى جانبها خلافات !
   ذلك أنَّ ماتَعرَّضنا إليه في موضوع انتسابنا لم يكن تسجيلاً لرأيٍ مخالف ، بل هو تشريعٌ للطعن على كرامات محتَرمّةٍ عند الشرع وفي ميزان الذوق والعرف ، وَفتحُ بابٍ لأصحاب القلوب المريضة للتعدي والإفتراء والبهتان بطريقةٍ لم تَقَع على حساب ، وهي الطعونات وممارسات التخوين التي انتهت إلى ماشاهده الجميع ضمن بعض اللقطات ، والتي لاداعي إلى استعادة ما جاء فيها .
   هذا ، وسيتبين في هذه الأسطر من هو المطالَب بالمباهلة .

                                   المطالَبون بالمباهلة  
   أودُّ أن أشير هنا إلى أن هذه المباهلة ، ليست موجَّهةً إلى كلِّ من اتخذ موقفاً غير ودي من موضوعنا ، ولا لكلِّ من أمضى من ناحية موضوعنا بالنفي ، فتلك إشكاليةٌ خاضعةٌ لظرفها الخاص ، والمرأ يتمنى أن تزول تلك الإشكاليات بزوال مؤثراتها العالقة .
   وعلى ذلك فالمطالبَة ليست موجَّهةً للعموم ، بل هي خاصَّةٌ بالفئات التالية :   
أ‌) كلّ من يَحملُ مشروع توريث أبنائه وأبنائهم ، أنَّ انتساب الأسرة إلى بني هاشم أمرٌ مُختَلَق ، ويهدفُ إلى تأسيس حضانةٍ نَفسيةٍ لهم ، يُغذّيهم فيها بأنَّ القول بالسيادة يَستند إلى مُشجَّراتٍ زائفة ، والحال أنَّ الأمر على خلاف ذلك .  
ب‌)   كلّ من أشاع بين الناس ، ومازال على تلك الحال ، من الترويج  بأن انتساب هذه الأسرة إلى بني هاشم لايقوم على أي أساس ، باعتبار مالذلك من دلالةٍ ضمنية ، بأن السواد الأعظم من الأسرة ، المتقيِّدين بالسيادة ، لارشد لهم أو متهاونون بالدين .  
   وعلى ذلك نؤكِّد مرَّةً أخرى أنَّ المباهلة ليست موجَّهةً هنا ، إلى من وطأ الحمى ذات يومٍ ، ثمَّ ذهب إلى سبيله ، أو أساء الفهم ، أو غير أولئك ممن اعترضتهم إشكاليةٌ عابِرَة ، أو شارك مشاركةً سلبيةً ، ثمَّ صدف وكفّ . 

صحيفة المباهلة (2)

                          
  
   والأمور التي أدعو من تقدم ذكرهم وتحديدهم للمباهلة عليها هي :
1) أن أسرة آل أبي مبارك الصائغ (العبدِالله والمبارك والنمر والصائغ والحمود وآل ناصر بن محمَّد والنجدي والنجيدي والنجادة) ، هم الصواغ الذين كانوا يسكنون منطقة الحريق والحوطة والدلم ، من دون أدنى شكّ .
2) أن لفظة "صواغ الحريق" إذا أُطلقت في نجد ، فالمقصود بها هذه الأسرة ، المتفرِّعة إلى هذه الفروع ، دون غيرهم ، من دون أدنى شكّ  .  
3) أنَّ كلَّ الممارسات التي استهدفت الطعن في وحدة هذه الأسرة أو التشكيك في ذلك ، لاقيمة لها في ميزان الحقائق العلمية ، بصرف النظر عن الدافع من وراء تلك الطعونات .
4) أن انتساب أسرتنا (آل الصائغ في الحوطة والحريق والدلم) ، إلى النسب الهاشمي الشريف ، هو أمرٌ واضح ، عليه شهاداتٌ مُسفِرَة ، ضمن تناقلٍ وتوارُثٍ مستفيضٍ في نَجد بانتساب الأسرة إلى بني هاشم ، وهو أمرٌ لايكاد يخفى على باحثٍ في أنساب الأسر الهاشمية في تلك المناطق  ، بصرف النظر عن النقل الشفهي داخل الأسرة ، المفيد لانتساب الأسرة إلى بني هاشم ، والذي يلتقي مع تلك الإستفاضة ويؤازرها .   

5) أنَّ الطعونات التي تمَّ توجيهها إلى الصكوك والمشجّرات ، من قِبَل الفريق المعتَرض ، هي طعوناتٌ باطلةٌ جُملةً وتفصيلاً ، وأنَّه تم اللجوء إلى افتراآتٍ باطلةٍ "مُتَّعمَّدة" لاصطناع الرِيَب والشكوك تجاهها .

6) أنَّ المعارضة استجازت لنفسها أسلوب الضغط على الشهود النجديين (من خارج الأسرة) ، لثَنيهم عن البوح بانتساب الأسرة إلى بني هاشم ، ومن الشواهد على ذلك ما وَقَفت عليه ـ أنا العبدَلله شخصيَّاً ـ حيث أخبرني أحد الشهود(من أهالي الحريق) بأنَّ هناك من المعترضين من تَوجَّه إلى جهةٍ من أقاربه ، مطالبين بإسكاته عن القول بانتساب الأسرة إلى الدوحة النبوية (وقد التقيت بهذا الشاهد ، في رجب الأصب ، في العام 1433 للهجرة النبوية المباركة) .

7) أنّ الأسلوب الذي التجأ إليه المعترضون ، فيما يرتبط بثني الشريف عبدالله الحسين ، عن قوله بانتساب العشيرة إلى بني هاشم ، واستصدار ورقةٍ اضطرارية ، غير اختيارية ، يتنصل فيها مما أفاده واعتمده من انتساب العشيرة إلى النسب الشريف ، على سبيل الإضطرار والتقية ، مع حضور نفرٍ منهم في مجلسين للشريف عبدالله الحسين ، يفيد فيهما بانتساب العشيرة إلى بني هاشم ، وأنّها تتصل نسباً بالإمام الكاظم (عليه أفضل الصلاة والسلام) .. أقول : إنَّ ذلك الأسلوب يعبِّر عن درجةٍ غير اعتيادية من المواقحة والمقابحة في الخصومة ، وهو أسلوبٌ يؤدّي من الناحية المنطقية والموضوعية إلى الشك في كلّ ورقةٍ أو موقفٍ ، يستصدره المعترضون من الشهود ، فيما إذا تضمن ذلك تراجعاً أو نفياً من الشاهد .. 
      مضافاً إلى ذلك ، فإنَّ التغرير بالناس والباحثين من خلال ورقة الشريف عبدالله الحسين ، مع علم المروجين بعدم جديتها واضطراريتها ، يمثل درجةً مكشوفةً واستثنائيةً من التزوير ، لعلم من روجّها بذلك كله (وقد ذُكِر طَرَفٌ من هذا الموضوع في بيان العدل والإحسان ، الموقع من جمعٍ من أبناء العشيرة) .   



   ثم إنني أطالب بأن تكون المباهلة في أي بيتٍ من بيوت الله تعالى ، بشهادة إخواني المؤمنين وحضورهم ، أو في بيت الله الحرام ، وذلك هو الخيار المقدَّم عندي .
   وأحبُّ أن أؤكِّد أن اللجوء للمباهلة ما كان ليكون خياراً لولا التُهمّ الصبيانية التي منينا بها ، ولولا أساليب التخوين والتكفير السَمِجَة التي شاهدناها جميعاً عبر الحملة الظالمة ، التي لم تَقف عند غاية .
                    السيد يوسف العبدالله النمر الصائغ
                   مدينة الدمام ــ رَجَب الأصب 1433ه
                                             

الاثنين، 2 أبريل 2012

الإمام الحسن عليه السلام في محنته التاريخية

يجد المتابع للتاريخ الإسلامي ، من دون تكلُّفٍ ولا اعتساف ، أن ثمة إشكاليةً أو أزمةً كبرى ، ظلّت ملحةً في حضورها ، فيما يتصل بعلاقة أهل البيت عليهم السلام بالسلطة ، ومن هو على صلةٍ بها: سواءٌ كان مُشيِّداً لشرعيتها ، أو خاطباً لرضاها ، أو متجنباً لسطوتها ، وهو الأمر الذي تجلّى في واقعٍ "رسميٍ" مباينٍ تماماً لمسألة إمامة أهل البيت عليهم السلام وريادتهم الدينية ، حيث كان " التشيع " لأهل البيت عليهم السلام يمثل خروجاً عن " نص " السلطة ، وإعراضاً عن " الإندماج " مع إيقاعها العام .     
   وقد جاءت حياة الإمام الحسن عليه السلام معبِّرةً عن هذه الأزمة في المجتمع الإسلامي ، بل لقد كانت ممثِّلةً لتلك الأزمة في الدرجة العالية من التعقيد ، والتي كان من فصولها انهيار جيش الإمام الحسن عليه السلام جرّاء الخيانات المتتالية في ذلك الجيش ، والمغادرة إلى المعسكر المناهض نزولاً على إغراء المال والحطام .                
    وعلى كلٍ ، فإن المجافاة القائمة بين الحالة الرسمية وبين أهل البيت عليهم السلام ، لايمكن إلا أن تكون معبِّرةً عن التنكر الصارخ للنصوص الطافحة الطامية ، التي جعلت لأهل البيت عليهم السلام منزلةً ربانيةً خاصةً .. كما
لايمكن لتلك الجفوة لمقام أهل البيت النبوي عليهم السلام إلا أن تكون دافعةً باتجاه السؤال عن العوامل التي دفعت باتجاه الإعراض عن جعل أهل البيت عليهم السلام في الموقع اللائق بهم ، بصرف النظر عن مظاهر العدوان التي تعرض لها أهل البيت عليهم السلام ومن ينتمي إليهم ويقرُّ لهم بالإمامة .   
   ونحن متعرضون هنا للإجابة على هذا السؤال البارز ، في حدود الإقتضاب والإختصار ضمن النقاط التالية : 
  1 ـــ إن الإحاطة بالنصوص والبيانات النبوية ، والمتصلة بمقام أهل البيت عليهم السلام ، بعيداً عن الخضوع للرواسب والمواقف النفسية المتكهربة ، هي كفيلةٌ ـ فيما نعتقد ـ للدلالة على إمامة أهل البيت عليهم السلام ، وأنهم هم المتقدِّمون ـ بالميزان الرباني ـ على هذه الأمة ، بما فيها من الأماثل والأعلام ، والصالحون المصلحون .   
   2ــ إن حمل هذه النصوص على خلاف ما يعرفه ويفهمه المرأ منها بتلقائيته وصفاء ذوقه ، هو خروجٌ عن المقررات العرفية لفهم الكلام ، وهو إلى ذلك مفضٍ إلى" انشطارٍ " حادٍ ، يفصل الإنسان ـ نفسياً ـ إلى شقين متباعدين يضيع بينهما القرار النهائي في فهم النص وتحديد دلالته : شقٍ يمثِّل الفهم الصحيح للنصوص ولنظام المفاهمة العرفية ، وشقٍ آخر يمثِّل التقيِّد المبرم بتصوراتٍ مذهبيةٍ خاصةٍ ، تشكلت فيما نعتقد استجابةً لظرفٍ تاريخيٍ خاصٍ ، وهو الأمر الذي يعني أن ذلك الفهم تشكل " تاريخياً " .. منصاعاً لشجون التاريخ وشجونه وتبعاته ، فلو كانت دراسة تلك النصوص ـ والمرتبطة بموضوع الإمامة ــ بعيدةً عن تلك العوامل التاريخية لما أفضت ــ فيما نعتقد ـــ إلا إلى القول بإمامة أهل البيت عليهم السلام وأنهم هم الأمناء على حقائق هذه الرسالة الخاتمة .    
   3ـــ  يعني ذلك ـ وهو خضوع فهم البيانات النبوية لظروفٍ تاريخيةٍ مغالبةٍ ــ أن النص والبيان النبوي ، بدلاً من أن يكون " الميزان " الذي يقاس به التاريخ للتعريف بشرعية ذلك التاريخ ، ومدى استقامته للمنهج الشرعي ، صار البيان النبوي " خاضعاً " لـ " شرعية " التاريخ وموزوناً به !    
   4 ـــ يستطيع الإنسان المتبصر ، وبسهولة ، أن يحدد " علمية " أي اختلاف ، من خلال تحديد موقف الأطراف المختلفة من " البديهيات " و الواضحات : أي من ناحية منعطفات الحوار التي لايليق ولا يُتصوَّرُ وقوع الإختلاف فيها ، فإن وجدنا الإختلاف ينسحب إلى تلك الواضحات بحيث تكون بؤرةً للتوتر فالتمرد والمعاصاة ، فليعلم ــ حينئذٍ ــ أن ذلك الإختلاف ليس متقيِّداً بقيود " الحقيقة العلمية " ، بل هو مقيِّدٌ بقيود " المصالح " الحزبية أو الشخصية أو غير ذلك .. وللعاقل أن يعرض هذا الميزان على الأمثلة المختلفة ليتحقق من مصداقيته وقدرته على التمييز بين الإختلاف العلمي ـ حقيقةً ــ في جذوره ومخبره ، وبين الإختلاف الذي يتلبس بلباس العلم في سطحه ومظهره .  
   ثم إننا على خلفية ما أسلفناه وسجّلناه قبل قليلٍ من كون البيانات النبوية ، المرتبطة بأهل البيت عليهم السلام ــ فيما نعتقده ونُحس به ـــ في غاية الجلاء والوضوح في دلالتها على إمامة أهل البيت عليهم السلام .. إننا على ضوء ذلك نستطيع أن نميِّز هوية الإختلاف الذي واجه أهل البيت عليهم السلام ، والذي تجلّى " عملياً " في تضييع امتيازهم الرباني على الأمة ، ثم في تمييع الدلالة الواقعية للبيانات النبوية المعرِّفة بعظيم فضلهم ، وخطير منزلتهم .
   5ـــ إننا في هدي البيان المتقدِّم يتجلّى لنا ــ وبوضوح ــ الدافع الغامض للتعامل المستغرب مع البيانات النبوية الواضحة ، والمرتبطة بأهل البيت عليهم السلام ، في تغيير مسار دلالتها عن معناها المفهوم ، حتى لَتكون البيانات النبوية أقرب ـ وحاشا البلاغ النبوي ــ إلى العبثية أو الفيضان الإنشائي ، ففيما نجد الرواية النبوية المعروفة ، والمسلَّمة " علمياً " ، والتي تفيد أن " الحسن والحسين ، إمامان قاما أو قعدا " واضحةً بينةً مشرقةً ، نجد من الناحية " العملية " أن الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام ، لم يتم الإعتراف لهما بالإمامة ، والتي تعني أنهما ـ بمقتضى التوصية النبوية ــ "يُؤمَّان" ويقصدان لأخذ معالم الدين ، وهو تعبيرٌ عن أنهما منبعٌ نقيٌ للوصول إلى حقائق الدين ، وأنهما مرجعان للأمة إذا التبست الأمور وغشيت الفتن كقطع الليل المظلم .  
   فمن الناحية العملية ، إلى الآن مايزال السؤال دائراً حائراً ، حول شرعية خروج الإمام الحسين عليه السلام ، وهو الإمام على لسان جده الرسول الكريم ، والذي لاينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحيٌ يوحى ، هذا مع صرف النظر عن المواقف التي تهدف إلى تخطئة الإمام الحسين عليه السلام بأسلوبٍ معلنٍ أو مبطن ، ويحلو لها أن تُجرد هذه الحركة المقدسة من أبعادها وغاياتها الربانية .  
   6ـــ هناك نقطةٌ جديرةٌ بالإلتفات ، في فهم طبيعة المواقع المناهضة لدعوات الأنبياء العظام وأولياء الله ، فيما يرتبط بتمرد أقوامهم ، وهي أن تمرَّد الكافرين بتلك الدعوات والرسالات ، كان " عناداً " ومنادَّةً ، ولم يكن انحرافاً بريئاً ، وهو الأمر الذي يعني أنَّ البينات والمعجزات ، وسائر الدلائل التي اعتمدها أولئك الأنبياء العظام والرسل الكرام ، كانت مستوفيةً لعناصر الإسكات وإقامة الحجة . 
   فهذا هو القرآن الكريم يحكي لنا بعض الفصول في رسالة موسى عليه السلام ، في قوله تعالى : " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ، :قَالُوا مَا هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرًى، وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأَوَّلِينَ "[1] ، فليست المشكلة فيما جاء به نبي الله موسى عليه السلام من الدلائل ، فقد كانت " بيّنات " كما وصفها القرآن الكريم ، أي أنها واجدة للعناصر المطلوبة لتحقيق الغرض المطلوب منها من التبيين ، ولكن الأمر كما قال الشاعر :    
إن غاب في الأزهار لون الضحى       فالذنب ذنب الأعين الناظرات          
    وبكلمة واحدة : إن المشكلة أحياناً ليست في صلاحية " الخطاب " للتأثير ، بل في صلاحية " المخاطب " للتأثر .    
   وهذا المفصل من الحديث يرتبط بمسألة المعرفة وشروطها وموانعها ، وهي مسألةٌ جديرةٌ بالبحث والعناية ، ولها مقامٌ آخر ، وهي خارجةٌ عن الهدف المتوخى هنا .    
   فنسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه وألّا يستبدل بنا غيرنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .     
                                            14 ـ 9 ـ 1432 ه
  



[1] سورة القصص، الآية: 36.

الأربعاء، 7 مارس 2012

أصولٌ في اللياقة الفكرية (مقدِّمة)

                                      بسم الله الرحمن الرحيم   
   الحمدلله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعداء الله ظالميهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين ، وبعد :
   فهذه مجموعةٌ من الأفكار المنتقاة ، إخترتها من هنا وهناك .. من واقع ما قرأته ومما مارسته وعالجته ورصدته من قضايا الحياة.   
   وقد دوّنتها مقدِّراً أنها تصلح ـ فيما أحسِب ـ لنفع إخواني القرَّاء ، المتشوِّفين لنور المعرفة والتأمل ليستضيؤوا به في قضايا حياتهم ، ومؤمناً بأن تنظيم التجارب وتأديتها علمياً هو خطوةٌ مهمةٌ للإسترشاد والإستدلال بها .   
    والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يجعل هذه البضاعة المتواضعة منهلاً لرواد المعرفة والتفكير السديد ، لاسيِّما لجيل الشباب اليافع ، والذي مازال يطرق أبواب الحياة المبكرة ، باحثاً عن طريق يزرع فيه خطواته الفتيِّة .   
                                        يوسف السيد أحمد النمر الصائغ
                                         ربيع الثاني ـ 1433هــ ـــ الدمام

أصولٌ في اللياقة الفكرية (1)

    فكِّر وكرِّر.. لاتبتئس    
   يمر الإنسان في حياته بإخفاقات ومحاولاتٍ فاشلة ، تكون لها ـ عند البعض ـ تبعاتٌ ضارَّة و " مدمِّرة " فيما يرتبط بتقدير الإنسان لذاته ، فيتصور أن الفشل قدره المقدور ، وأن المحاولات المخفقة التي مرَّ بها ، تعبِّر عن قدراته ، وتمثِّل نهاية تاريخه .     
   فالواجب هو أن يتخلَّص الإنسان من هذه " العُقَد " ، وأن يغتنم فرصةً " هادئة " ، لرسم خطةٍ للمرحلة المقبلة ، على أن يراعي في هذه الخطة أن تكون مشتملةً على أهدافٍ " ميسورة " وغاياتٍ مقدورةٍ مضمونة ، فإن من شأن الوصول إلى بعض الأهداف المتواضعة ، "ترميم" الثقة بالذات وإنعاشها من جديد ، والتجربة خير برهان .   
   وبالمناسبة ، فإن بعض أهل الإختصاص في مجال أصول كتابة الأبحاث العلمية ، يعتبر كتابة المقالات القصيرة خطوةً أولى للدخول إلى عالم التأليف . 
   وما من ريبٍ أنه أمرٌ منطقي ٌ وصائب ؛ ذلك أن النجاح في المقال القصير للمبتدأ أكثر مضمونيةً من نجاح مثله في تأليف الكتاب ، مما يعني أن تذوق النجاح في المقال القصير سيعطيه الزاد المعنوي وسيموِّنه بمشاعر النصر التي ستكون سِناده وعتاده للمراحل التالية في التأليف ، فالنجاح الصغير بوابةٌ للنجاح الكبير .    

 
   الإختيار بواقعية  
  يصادف الإنسان في حياته مشاكل ذات مسحةٍ إستثنائية ، أو فلنسمِّها منعطفاتٍ بالغة التعقيد .  
   وفي هذا النوع من المنعطفات يقف الإنسان على مفترق طريق ، حيث لايمكن العبور إلّا بتحمل بعض الأضرار ببسالةٍ وفروسيّة ، حيث تكون جميع الخيارات التي سيتخذها الإنسان محفوفةً بشيءٍ من الضرر ، حيث لايمكن الخروج إلابتحمل ضررٍ وألمٍ أيّاً كان الإختيار .    
   وذلك القسم من الناس ، من ذوي الطبع الباسل ، والموطِّنون أكنافهم لتحملِّ الخسائر التي لافرار منها ، هم قسم متميزٌ نادر ، وليس كل من هبّ ودبّ هو أهل لاحتمال مثل هذه القرارات .
   والناس بعد ذلك درجاتٌ متفاوتةٌ في توفُرِّهم على تلك الفروسية التي نصفها ، ومتفاوتون في اللياقة النفسية لتحديد الخيار المناسب في مثل هذا الظرف الحرج ، إلى أن نصل إلى أصحاب الدرجة الرومانسية الحالمة .. إلى أولئك الذين لايريدون أن يخسروا شيئاً وألَّا تطير من أيديهم شيءٌ من أرباحهم وامتيازاتهم .
    والذي يجب أن يكون واضحاً لدينا في التعامل مع مثل هذه الظروف المعقَّدة أن طبيعة الواقع ، بل تعقيدات الواقع ، لها حسابات خاصة ، حيث تفرض على المرأ حلولاً " نسبية " ، يقارنها بعض السلبيات أو ربما بعض الآلام ، التي تصادم ما كان يتمناه الإنسان ويصبو إليه ، وهذه حقيقةٌ قاهرةٌ غالبةٌ ، لايمكن الفرار منها بحالٍ من الأحوال .    
      نتيجةٌ مما تقدَّم
   والحاصل أن هناك من الناس يظنَّ أنَّ الوقوع في الإخفاق كارثة ، ولذلك تجده يعاني من الرُهاب والقلق البالغ تجاه المآزق التي قد تلحق به عند الأخذ بهذا الخيار أو ذاك ، حتى لوتبين له بعد التأمل والتفكير أن خياره هو الخيار المناسب والسديد .
      ثمَّ إن هذا القلق قد يتضاعف إلى الحد الذي يعيق الإنسان ويعطِّل حافزيته وفاعليته .   
   فالنظرة الصحيحة هي أن يعترف الإنسان ، بينه وبين نفسه ، بإمكانية الوقوع في الإخفاق أو المرور ببعض النتائج السلبية ، والتي لم تكن في الحساب .    
   وتضمن هذه النظرة الموضوعية للمرأ أن "يحدَّ" من المردودات المعنوية للإخفاقات ليقاوم تداعيات اليأس والإحباط . 
      وكما انتهينا إلى تحديد الطريقة السليمة في التعامل مع الأضرار الإضطرارية ، نتطرَّق بالمناسبة إلى ما يتوجب على الإنسان عندما يفكِّر في التخطيط للوصول إلى أرباحٍ أو مكاسب هنا أو هناك .
   فالمنطق الصحيح في التخطيط نحو المكاسب ، أن يكفكف المرأ من تدافع الأرقام الوهمية لنجاحاته المستقبلية ، فإن الغالب ، بحسب طبيعة الأشياء ، أن تأتي نجاحات الإنسان بينَ بين .. فإن الإنسان إذا غابت عنه هذه الحقيقة ، وتدنى مستوى نجاحه ومكاسبه عمّا كان يتوقعه ، داخلته مشاعر الإحباط والإنكسار ، بل ربما تفاعلت في أعماقه إلى مستوى مدمِّرٍ ، ينتهي به إلى تعطيل طاقاته .

أصولٌ في اللياقة الفكرية (2)

 علِّمْ[1] .. ولاتُهوِّمْ !   
   من الأسس المهمة ، التي تقوم عليها الخُطط المثمرة والحراك الهادف ، هو أن تكون الأهداف محدَّدَة بالنسبة إلى صاحبها ، وألَّاتزحف عليها أهدافٌ أخرى ، لتزيحها وتتغلب عليها .  
   ويتضح لنا المقصود من ذلك بدقة ، عندما نرى حال عيَّنةٍ من أولئك الذين لم يتخِّذوا " قراراً " عميقاً تجاه أهدافهم المبرمة ، ولايزالون في طور " الأماني " الباردة والرغبات الطفيفة ، في الوصول إلى الهدف الذي يحلمون به !
   وهذه الدرجة من الإرتباط بالأهداف لاتعطي ضمانةً للوصول ، ولاتحقق الإلتحام المنشود بالمسار المطلوب .
   ونحن في التعبير المتداول نسمِّي هذا النحو من الأمانيَّ الورديَّة " نزوة " ، والإنسان في ظرف وقوعه تحت دفع هذه النزوات ، قد تنوبه رغبةٌ أخرى أوتميل رغباته إلى هدفٍ ثان ، ثم يتجه إلى مسارٍ آخر ، ولايتوقف عند ذلك ،  بل تستزله أمانيه باتجاه مغاير .. وهكذا .. ليبقى الإنسان في نشاطاته مضطرباً هائماً مهوِّماً ، كالطير السارح ، الذي يتجول من فنَنٍ إلى فنَنٍ ، صادحاً مغرِّداً !!  
   فالخلاصة : أنه لابد من التحديد الثابت للأهداف والإرتباط الثابت بها ، بخطىً ثابتةً ، ولذلك قلنا : علِّمْ ولاتهوِّم !
    
   لاتَغلُل فتُغَلّ  
   إذا صادف الإنسانَ تصرفٌ مثيرٌ لغضبه ، ثم لم يتمكن من التنفيس عن غضبه ، لمانعٍ أو لآخر ، فإن مصير ذلك الإنفعال هو الإحتباس في الزوايا الخفية من نفس الإنسان ، فإن لم يكن الإنسان طيِّباً في سريرته ، ولامديراً عاقلاً لمشاعره وانفعالاته ، تحوَّلت تلك الإحتباسات الغاضبة إلى حقدٍ كامن .  
   والإنسان الحاقد بطبيعته مُتعِبٌ ومُتعَب : فهو مترصِّدٌ لغرمائه وخصومه ، ليلتمس عليهم العثرات والزلَّات : مادقَّ منها وما جَلّ ، وهو بحسب هذه النظرة ، عنصرٌ إجتماعيٌ مزعجٌ من الدرجة الأولى ، قادرٌ على اختلاق منازلات وجولات ، لامبرر من ورائها ، ولاحصر لها ولا نهاية .  
   وهو مضافاً إلى ذلك مزعجٌ لنفسه مُبدِّدٌ لراحتها ، وشاغلٌ لها في غير شاغل .. فحيث ينشغلُ العاقل اللبيب بما يجب عليه القيام به ، ينشغل الحاقد الفارغ بمعاركه العبثية وصراعاته الإلهائية .   
   ومن ذلك تتضح اللفتة التي على أساسها سمِّي الحقد " غلّاً " ، حيث إن الغِلُّ هو مايُغَلُّ به ويكون التقييد بواسطته ، فأهل الأحقاد والبغضاء  مملوكون لأحقادهم وشحنائهم النفسية ، مقيَّدون بها ، محرومون مما تفرضه البصيرة على الإنسان ، ومايوجبه الإدراك السويّ ، من التصرُّفات اللائقة والسلوك النبيل .
   والذي يجدر الإلتفات إليه في هذا الصدد والأخذ به ، هو أن الإستفزازات التي نواجهها في الحياة ، وإن كانت تحرِّك شيئاً من الألم في دواخلنا ، ولكن لايصح أن تأخذ منَّا حيِّزاً أكبر مما نستحق ، فضلاً عن أن تسيطر علينا سيطرةً شاملة ، فضلاً عن تتحول ـ لاقدَّر الله ـ إلى سلوكياتٍ ثأريةٍ بشعة .   
   وعلى النقيض تماماً من ذلك سماحة الخلق ، وسلامة الصدر من الأضغان ، وحميمية المشاعر تجاه الآخرين ، وسلوَّ النفس وإعراضها عن شجون الماضي .. فإن ذلك يُعدُّ رصيداً نفسياً رائعاً ، ونعمةً من نعم الله تعالى على أصحاب الأنفس السخية والعقول الراجحة .      
   هنالك حيث يتحوَّل القلب إلى جنَّة غناء ، ويعذُب إحساس الإنسان وتطيب حياته ، ويجدُ فيها سعةً ومتعة ، ويتلذَّذ بما يتاح له من مباهج الحياة وطيِّباتها .    
   وللإنسان كامل الإختيار في أن يكون في هذا الصنف أو ذاك .. في أن يكون مغلولاً وثيقاً ، أو حرَّاً طليقاً .


[1] أي ضع علامة على الهدف وتحرَّك ضمن خطة لها غاية ، ولاتكن هائماً بلا قصد واضح .

أصولٌ في اللياقة الفكرية (3)

    التقدير الذاتي .. أو حجر الزاوية   
   هذه النقطة من الأمور المتناهية في الأهمية فيما يتصل بتحقيق الأهداف وإحراز الإنجازات .. ونحن هاهنا نُعرض إليها شرحاً وتحليلاً ، ليتضح المقصود ، بالضبط ، من مصطلح " التقدير الذاتي " .   
   لكلٍّ منّا في كيانه حظٌ من النقص والعيب ، فليس أحدٌ منا إلا وله عيبٌ ماثل فيه ، إمَّا في هيئته الخِلقية الظاهرة أو في خُلُقه وطباعه .. إمَّا في جوارحه أو جوانحه .. وليس خروجاً عن المألوف أن يُحِسَّ الإنسان بأنَّ هذا النَقص حرمانٌ له من الكمال الذي ينشده ، فالمرأ ـ مثلاً ـ يتمنى قوة البنية إذا افتقر إليها ، كما يتمنى المال إذا كان مُعوِزاً ، وهو إلى ذلك يتمنى قوة الحفظ إذا كان ضعيف الحافظة أو متوسطها ... إلخ .
   ولكنَّ إحساس الإنسان بعيوبه يصل إلى مراحل حادَّة وإلى مراحل مُتأزِمة ، في بعض الحالات ، حيث يتوغل إحساس الإنسان بما فيه من النقص والعيب ، في أعماق النفس ، إلى الحد الذي تنهار معه ثقة الإنسان بذاته ويتآكل إحساسه بأهميتها ، ويضعف إيمانه بجدارته وكفائته في وصوله إلى أهدافه وغاياته .
   ومن الطبيعي أنَّ الإنسان كلَّما كان أشدَّ استغراقاً في آلامه من ناحية نقصه وقصوره ، انخفض منسوب ثقته بذاته وضعف اعتماده عليها ، وهو الأمر الذي سينتهي ، تراكمياً ، إلى انحسار الإندفاع والحماس في أداء الأعمال ، وإلى شيخوخةٍ نفسية ، خاليةٍ من الطموح والفتوة .
   هذه إذن صورة الإنسان المحطَّم معنوياً ، والفاقد للثقة بقدراته .
   ولكننا نجد على النقيض من ذلك صورةً أخرى ، تعبِّر عن حالةٍ معنويةٍ مضادَّة ، حيث يستطيع الإنسان أن يحافظ على مشاعر الإحترام لذاته وأن يؤمن بما فيها من طاقة للوصول إلى الأهداف المنشودة ، وهذه الحالة هي التي نسميها " التقدير الذاتي " .  
   والمسحة التي يتميَّز بها من يمتلك صفة " التقدير الذاتي " هي امتلاكه لـ " الحصانة " النفسية التي تمنع مشاعر الإستهانة بالذات من النفوذ إلى معنوياته وصموده ، بحيث لاتتحول آلام الإنسان الناتجة من عيوبه وخلله ونقصه ، إلى عبإٍ لسحقه وتدميره .
   ولكي تتضح المسألة فلنتناول مثالاً حيَّاً ، ولنسترجع أحوال الناس الذين مررنا بهم في حياتنا .. في مقاعد الدراسة .. أو مصادفةً في الطرق العامَّة ، أو على منصَّات الإلقاء والمحاضرة .. إلخ .. فلنتمثَّلهم في أذهاننا ولنطرح السؤال التالي : ألم نجد لدى بعض هؤلاء إشكاليةً ما في النطق ببعض الحروف ؟  
   بكلِّ تأكيد صادفنا من هؤلاء عيِّناتٍ ، قلّوا أو كثروا .
   بعد ذلك فلنلاحظ هؤلاء لنتبين الفَرقَ بينهم في نظرتهم لذواتهم ، فهل هؤلاء المصابين بمشاكل النطق ، هم على وضعٍ واحد ؟   
   بكلِّ تأكيدٍ ليسوا كذلك .. فهناك أشخاصٌ من المصابين بصعوبةٍ في النطق ، هم في غاية الإنبساط والراحة في التعامل مع الآخرين ، وإجراء حواراتٍ تلفزيونية وإلقاء محاضراتٍ عامَّة ، فيما إذا كانوا من الشخصيات النخبوية ، وهم إلى ذلك يمارسون سائر نشاطاتهم بكلِّ حيوية وفاعلية ، مما يعني أنَّ عقبات النطق لم تكلِّفهم أي عبإٍ نفسي ولم تمثِّل لهم سداً في حياتهم .     
   وعلى النقيض من ذلك تماماً ، ما نجده عند قِسمٍ ممن يعانون من صعوبةٍ في النطق ، حيث نلمس فيهم درجةً مؤلمةً من الإنكسار وانحسار الفاعلية ، وغياب الإستجابة لما يمليه الطموح ممن هو في مثل حالهم ومواهبهم الكامنة .. نعم ، إذ ليس هنالك إنسانٌ فيما نألف ونعرف ، يخلو من موهبةٍ ظاهرةٍ أو كامنة .    
   وكلُّ ذلك التناقض البيِّن في المثالين المتقدِّمين ، هو من رشحات التقدير الذاتي عند أحد الطرفين ، والحاضر بصلابة عند أحدهما ، وغيابه عند الآخر .
   ومن خلال ملاحظة مدى تأثير هذه الخصلة ( التقدير الذاتي ) ، وخطورة امتدادها إلى الوضع المعنوي للإنسان .. يتبين السرَّ في تسميتها بـ "حجر الزاوية " ، كما أسلفنا في عنوان هذا المقطع .