يجد المتابع للتاريخ الإسلامي ، من دون تكلُّفٍ ولا اعتساف ، أن ثمة إشكاليةً أو أزمةً كبرى ، ظلّت ملحةً في حضورها ، فيما يتصل بعلاقة أهل البيت عليهم السلام بالسلطة ، ومن هو على صلةٍ بها: سواءٌ كان مُشيِّداً لشرعيتها ، أو خاطباً لرضاها ، أو متجنباً لسطوتها ، وهو الأمر الذي تجلّى في واقعٍ "رسميٍ" مباينٍ تماماً لمسألة إمامة أهل البيت عليهم السلام وريادتهم الدينية ، حيث كان " التشيع " لأهل البيت عليهم السلام يمثل خروجاً عن " نص " السلطة ، وإعراضاً عن " الإندماج " مع إيقاعها العام .
وقد جاءت حياة الإمام الحسن عليه السلام معبِّرةً عن هذه الأزمة في المجتمع الإسلامي ، بل لقد كانت ممثِّلةً لتلك الأزمة في الدرجة العالية من التعقيد ، والتي كان من فصولها انهيار جيش الإمام الحسن عليه السلام جرّاء الخيانات المتتالية في ذلك الجيش ، والمغادرة إلى المعسكر المناهض نزولاً على إغراء المال والحطام .
وعلى كلٍ ، فإن المجافاة القائمة بين الحالة الرسمية وبين أهل البيت عليهم السلام ، لايمكن إلا أن تكون معبِّرةً عن التنكر الصارخ للنصوص الطافحة الطامية ، التي جعلت لأهل البيت عليهم السلام منزلةً ربانيةً خاصةً .. كما
لايمكن لتلك الجفوة لمقام أهل البيت النبوي عليهم السلام إلا أن تكون دافعةً باتجاه السؤال عن العوامل التي دفعت باتجاه الإعراض عن جعل أهل البيت عليهم السلام في الموقع اللائق بهم ، بصرف النظر عن مظاهر العدوان التي تعرض لها أهل البيت عليهم السلام ومن ينتمي إليهم ويقرُّ لهم بالإمامة .
ونحن متعرضون هنا للإجابة على هذا السؤال البارز ، في حدود الإقتضاب والإختصار ضمن النقاط التالية :
1 ـــ إن الإحاطة بالنصوص والبيانات النبوية ، والمتصلة بمقام أهل البيت عليهم السلام ، بعيداً عن الخضوع للرواسب والمواقف النفسية المتكهربة ، هي كفيلةٌ ـ فيما نعتقد ـ للدلالة على إمامة أهل البيت عليهم السلام ، وأنهم هم المتقدِّمون ـ بالميزان الرباني ـ على هذه الأمة ، بما فيها من الأماثل والأعلام ، والصالحون المصلحون .
2ــ إن حمل هذه النصوص على خلاف ما يعرفه ويفهمه المرأ منها بتلقائيته وصفاء ذوقه ، هو خروجٌ عن المقررات العرفية لفهم الكلام ، وهو إلى ذلك مفضٍ إلى" انشطارٍ " حادٍ ، يفصل الإنسان ـ نفسياً ـ إلى شقين متباعدين يضيع بينهما القرار النهائي في فهم النص وتحديد دلالته : شقٍ يمثِّل الفهم الصحيح للنصوص ولنظام المفاهمة العرفية ، وشقٍ آخر يمثِّل التقيِّد المبرم بتصوراتٍ مذهبيةٍ خاصةٍ ، تشكلت فيما نعتقد استجابةً لظرفٍ تاريخيٍ خاصٍ ، وهو الأمر الذي يعني أن ذلك الفهم تشكل " تاريخياً " .. منصاعاً لشجون التاريخ وشجونه وتبعاته ، فلو كانت دراسة تلك النصوص ـ والمرتبطة بموضوع الإمامة ــ بعيدةً عن تلك العوامل التاريخية لما أفضت ــ فيما نعتقد ـــ إلا إلى القول بإمامة أهل البيت عليهم السلام وأنهم هم الأمناء على حقائق هذه الرسالة الخاتمة .
3ـــ يعني ذلك ـ وهو خضوع فهم البيانات النبوية لظروفٍ تاريخيةٍ مغالبةٍ ــ أن النص والبيان النبوي ، بدلاً من أن يكون " الميزان " الذي يقاس به التاريخ للتعريف بشرعية ذلك التاريخ ، ومدى استقامته للمنهج الشرعي ، صار البيان النبوي " خاضعاً " لـ " شرعية " التاريخ وموزوناً به !
4 ـــ يستطيع الإنسان المتبصر ، وبسهولة ، أن يحدد " علمية " أي اختلاف ، من خلال تحديد موقف الأطراف المختلفة من " البديهيات " و الواضحات : أي من ناحية منعطفات الحوار التي لايليق ولا يُتصوَّرُ وقوع الإختلاف فيها ، فإن وجدنا الإختلاف ينسحب إلى تلك الواضحات بحيث تكون بؤرةً للتوتر فالتمرد والمعاصاة ، فليعلم ــ حينئذٍ ــ أن ذلك الإختلاف ليس متقيِّداً بقيود " الحقيقة العلمية " ، بل هو مقيِّدٌ بقيود " المصالح " الحزبية أو الشخصية أو غير ذلك .. وللعاقل أن يعرض هذا الميزان على الأمثلة المختلفة ليتحقق من مصداقيته وقدرته على التمييز بين الإختلاف العلمي ـ حقيقةً ــ في جذوره ومخبره ، وبين الإختلاف الذي يتلبس بلباس العلم في سطحه ومظهره .
ثم إننا على خلفية ما أسلفناه وسجّلناه قبل قليلٍ من كون البيانات النبوية ، المرتبطة بأهل البيت عليهم السلام ــ فيما نعتقده ونُحس به ـــ في غاية الجلاء والوضوح في دلالتها على إمامة أهل البيت عليهم السلام .. إننا على ضوء ذلك نستطيع أن نميِّز هوية الإختلاف الذي واجه أهل البيت عليهم السلام ، والذي تجلّى " عملياً " في تضييع امتيازهم الرباني على الأمة ، ثم في تمييع الدلالة الواقعية للبيانات النبوية المعرِّفة بعظيم فضلهم ، وخطير منزلتهم .
5ـــ إننا في هدي البيان المتقدِّم يتجلّى لنا ــ وبوضوح ــ الدافع الغامض للتعامل المستغرب مع البيانات النبوية الواضحة ، والمرتبطة بأهل البيت عليهم السلام ، في تغيير مسار دلالتها عن معناها المفهوم ، حتى لَتكون البيانات النبوية أقرب ـ وحاشا البلاغ النبوي ــ إلى العبثية أو الفيضان الإنشائي ، ففيما نجد الرواية النبوية المعروفة ، والمسلَّمة " علمياً " ، والتي تفيد أن " الحسن والحسين ، إمامان قاما أو قعدا " واضحةً بينةً مشرقةً ، نجد من الناحية " العملية " أن الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام ، لم يتم الإعتراف لهما بالإمامة ، والتي تعني أنهما ـ بمقتضى التوصية النبوية ــ "يُؤمَّان" ويقصدان لأخذ معالم الدين ، وهو تعبيرٌ عن أنهما منبعٌ نقيٌ للوصول إلى حقائق الدين ، وأنهما مرجعان للأمة إذا التبست الأمور وغشيت الفتن كقطع الليل المظلم .
فمن الناحية العملية ، إلى الآن مايزال السؤال دائراً حائراً ، حول شرعية خروج الإمام الحسين عليه السلام ، وهو الإمام على لسان جده الرسول الكريم ، والذي لاينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحيٌ يوحى ، هذا مع صرف النظر عن المواقف التي تهدف إلى تخطئة الإمام الحسين عليه السلام بأسلوبٍ معلنٍ أو مبطن ، ويحلو لها أن تُجرد هذه الحركة المقدسة من أبعادها وغاياتها الربانية .
6ـــ هناك نقطةٌ جديرةٌ بالإلتفات ، في فهم طبيعة المواقع المناهضة لدعوات الأنبياء العظام وأولياء الله ، فيما يرتبط بتمرد أقوامهم ، وهي أن تمرَّد الكافرين بتلك الدعوات والرسالات ، كان " عناداً " ومنادَّةً ، ولم يكن انحرافاً بريئاً ، وهو الأمر الذي يعني أنَّ البينات والمعجزات ، وسائر الدلائل التي اعتمدها أولئك الأنبياء العظام والرسل الكرام ، كانت مستوفيةً لعناصر الإسكات وإقامة الحجة .
فهذا هو القرآن الكريم يحكي لنا بعض الفصول في رسالة موسى عليه السلام ، في قوله تعالى : " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ، :قَالُوا مَا هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرًى، وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأَوَّلِينَ "[1] ، فليست المشكلة فيما جاء به نبي الله موسى عليه السلام من الدلائل ، فقد كانت " بيّنات " كما وصفها القرآن الكريم ، أي أنها واجدة للعناصر المطلوبة لتحقيق الغرض المطلوب منها من التبيين ، ولكن الأمر كما قال الشاعر :
إن غاب في الأزهار لون الضحى فالذنب ذنب الأعين الناظرات
وبكلمة واحدة : إن المشكلة أحياناً ليست في صلاحية " الخطاب " للتأثير ، بل في صلاحية " المخاطب " للتأثر .
وهذا المفصل من الحديث يرتبط بمسألة المعرفة وشروطها وموانعها ، وهي مسألةٌ جديرةٌ بالبحث والعناية ، ولها مقامٌ آخر ، وهي خارجةٌ عن الهدف المتوخى هنا .
فنسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن يجعلنا ممن ينتصر به لدينه وألّا يستبدل بنا غيرنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
14 ـ 9 ـ 1432 ه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق