الإصغــــــــــاء
الإصغاء وسيلةٌ مهمَّةٌ من للإتصال بما يدور حولنا ولما يقال ويثار ، ولما يعنينا من قضايا الحياة ، ولما يرجع إلى منافعنا المؤثرة .
يظنُّ البعض أنَّ الإلقاء موهبةٌ استثنائيةٌ : يختص بها فريقٌ من الناس وتُحرَمُ منه الغالبية ، أمَّا الإصغاء فالناس فيه كأسنان المشط .
وهذا في الواقع خلط بين السمع ، والذي هو فاعليةٌ يحوزها كل من كان له جهاز سمعيٌ سليمٌ ، وبين الإصغاء الذي يعني " الإتصال المثمر " بالآخرين .
ونحن جميعاً نلاحظ في كثيرٍ من الحالات ـ نتيجة غياب الإصغاء الفاعل ـ أناساً يتناقشون ولاتفلح نقاشاتهم ، أو يتحاورون فتتعثر حواراتهم .
وهؤلاء ليس من الضرورة أنهم ليسوا أهل خُلقٍ أو أنَّهم يهدفون إلى استفزاز الآخرين أو إضاعة الأوقات ، ولكنَّ الإصغاء فنٌ له أصول ، والدخول إلى حواراتٍ مثمرةٍ له شروط تُنجحه ، وموانع تصدُّه عن النجاح .
ونحن من خلال النقاط التالية ، متعرِّضون إلى نمطين إشكاليين لبعض العراقيل التي تعيق محاوراتنا عن الوصول إلى الغاية ، وتحرمنا من الإصغاء والإستقبال المنشود .
وسيتأكد لنا بعد التعرُّض لهذين النمطين الإشكاليين أن الإصغاء أمرٌ يستحق التخطيط والبناء ، وأنه نشاطٌ يستحق التنظيم ، ذو مآخذ لطيفة .
1) غياب الفهم الدقيق :
يتعثر النقاش أحياناً نتيجة أنَّ أحد طرفي النقاش لم يفهم الطرف الآخر .
وليس الفهم هنا هو الفهم الذي يقف حائلاً بين المختلِفين في الإنتماء اللغوي .
بل المقصود هو توجيه النفس للمعنى الذي يقصده المتحدِّث ، لا المعنى الذي تنساق إليه أذهاننا للوهلة الأولى .
وكمثالٍ بسيطٍ ومجرَّبٍ على ذلك ، مانشاهده في الحالات التي يجتمع فيها أفرادٌ مختلفون في مجلسٍ واحد ، حيث نجد أنَّ أحد الحاضرين يطالب بتشغيل جهاز التبريد (المكيِّف ) لأنَّه "يشعر بالحرارة " .
وهنا ربَّما لايعترض الحاضرون على هذا الخيار ، ولكنهم قد يستغربون ، أو يستغرب البعض منهم على هذا الطلب ؛ لأنَّ درجة الحرارة غير مرتفعة ، بل معتدلةٌ جداً ، فما هو السبب وراء الدعوة إلى تشغيل جهز التكييف .
وهذا المثال على الرغم من بساطته ، إلَّا أنه ذو مجالٍ تطبيقيٍ واسع ، ذلك أنَّ استيعابه سيلفتنا إلى السرّ وراء عدم انتقال بعض تصوراتنا ومشاعرنا أثناء اللقاآت والأحاديث المتبادلة .
فنقول : إنا لو دققنا في المثال المتقدِّم ، لوجدنا أنَّ المتسائل المستغرب لم يفهم الطلب على الوجه الدقيق ، ذلك أنَّ من كان يطلب تشغيل المكيِّف ، لم " يصف " الجوَّ بالحرارة ، بل أخبر بأنه هو " يشعر " بالحرّ ، صارفاً النظر عن الإخبار بدرجة الحرارة ، وغير ملتفتٍ إلى شعور المحيطين الخاصِّ بهم .
أي انه كان يتحدث عن شيءٍ لم ينتبهوا إليه ، واستغربوا من شيءٍ لم يقصده !
وهذا مثالٌ مصغّرٌ لقضيةٍ عابرة ، لوتأمَّله الإنسان لوجد خيطاً رفيعاً يصل هذا المثال بأمثلةٍ أخرى من واقع الحياة ، ترتبط بقضايا أكثر أهمية .. فالعبرة بأهمية الخلفية الفكرية للمثال ، لابدرجة أهميته .
وهذه الآفة في الإصغاء ، على الرغم من أنَّها في غاية الوضوح بعد الشرح ولفت الإنتباه ، إلَّا أنها تكون في غاية الغياب عن الشعور أثناء التطبيق العملي ، فالوقوع في اللبس بين المتعاشرين بسببها ، في غاية السهولة .
2) تفاوت النضج الفكري :
الفكر الإنساني له أطوار تشابه أطوار الكائنات الحية من حولنا ، فهو يقبل التطور والتربية ، وينمو ويثمر كما تنمو الغراس والزرع وكما يثمران .
ولايتوقف الأمر عند النمو والثراء فحسب ، بل إنَّ ما كان قبل الوصول إلى النضج الفكري منكراً ، أصبح بعد سطوع الفكرة العلمية أمراً صحيحاً مُسنَداً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق