الأربعاء، 7 مارس 2012

أصولٌ في اللياقة الفكرية (مقدِّمة)

                                      بسم الله الرحمن الرحيم   
   الحمدلله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعداء الله ظالميهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين ، وبعد :
   فهذه مجموعةٌ من الأفكار المنتقاة ، إخترتها من هنا وهناك .. من واقع ما قرأته ومما مارسته وعالجته ورصدته من قضايا الحياة.   
   وقد دوّنتها مقدِّراً أنها تصلح ـ فيما أحسِب ـ لنفع إخواني القرَّاء ، المتشوِّفين لنور المعرفة والتأمل ليستضيؤوا به في قضايا حياتهم ، ومؤمناً بأن تنظيم التجارب وتأديتها علمياً هو خطوةٌ مهمةٌ للإسترشاد والإستدلال بها .   
    والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يجعل هذه البضاعة المتواضعة منهلاً لرواد المعرفة والتفكير السديد ، لاسيِّما لجيل الشباب اليافع ، والذي مازال يطرق أبواب الحياة المبكرة ، باحثاً عن طريق يزرع فيه خطواته الفتيِّة .   
                                        يوسف السيد أحمد النمر الصائغ
                                         ربيع الثاني ـ 1433هــ ـــ الدمام

أصولٌ في اللياقة الفكرية (1)

    فكِّر وكرِّر.. لاتبتئس    
   يمر الإنسان في حياته بإخفاقات ومحاولاتٍ فاشلة ، تكون لها ـ عند البعض ـ تبعاتٌ ضارَّة و " مدمِّرة " فيما يرتبط بتقدير الإنسان لذاته ، فيتصور أن الفشل قدره المقدور ، وأن المحاولات المخفقة التي مرَّ بها ، تعبِّر عن قدراته ، وتمثِّل نهاية تاريخه .     
   فالواجب هو أن يتخلَّص الإنسان من هذه " العُقَد " ، وأن يغتنم فرصةً " هادئة " ، لرسم خطةٍ للمرحلة المقبلة ، على أن يراعي في هذه الخطة أن تكون مشتملةً على أهدافٍ " ميسورة " وغاياتٍ مقدورةٍ مضمونة ، فإن من شأن الوصول إلى بعض الأهداف المتواضعة ، "ترميم" الثقة بالذات وإنعاشها من جديد ، والتجربة خير برهان .   
   وبالمناسبة ، فإن بعض أهل الإختصاص في مجال أصول كتابة الأبحاث العلمية ، يعتبر كتابة المقالات القصيرة خطوةً أولى للدخول إلى عالم التأليف . 
   وما من ريبٍ أنه أمرٌ منطقي ٌ وصائب ؛ ذلك أن النجاح في المقال القصير للمبتدأ أكثر مضمونيةً من نجاح مثله في تأليف الكتاب ، مما يعني أن تذوق النجاح في المقال القصير سيعطيه الزاد المعنوي وسيموِّنه بمشاعر النصر التي ستكون سِناده وعتاده للمراحل التالية في التأليف ، فالنجاح الصغير بوابةٌ للنجاح الكبير .    

 
   الإختيار بواقعية  
  يصادف الإنسان في حياته مشاكل ذات مسحةٍ إستثنائية ، أو فلنسمِّها منعطفاتٍ بالغة التعقيد .  
   وفي هذا النوع من المنعطفات يقف الإنسان على مفترق طريق ، حيث لايمكن العبور إلّا بتحمل بعض الأضرار ببسالةٍ وفروسيّة ، حيث تكون جميع الخيارات التي سيتخذها الإنسان محفوفةً بشيءٍ من الضرر ، حيث لايمكن الخروج إلابتحمل ضررٍ وألمٍ أيّاً كان الإختيار .    
   وذلك القسم من الناس ، من ذوي الطبع الباسل ، والموطِّنون أكنافهم لتحملِّ الخسائر التي لافرار منها ، هم قسم متميزٌ نادر ، وليس كل من هبّ ودبّ هو أهل لاحتمال مثل هذه القرارات .
   والناس بعد ذلك درجاتٌ متفاوتةٌ في توفُرِّهم على تلك الفروسية التي نصفها ، ومتفاوتون في اللياقة النفسية لتحديد الخيار المناسب في مثل هذا الظرف الحرج ، إلى أن نصل إلى أصحاب الدرجة الرومانسية الحالمة .. إلى أولئك الذين لايريدون أن يخسروا شيئاً وألَّا تطير من أيديهم شيءٌ من أرباحهم وامتيازاتهم .
    والذي يجب أن يكون واضحاً لدينا في التعامل مع مثل هذه الظروف المعقَّدة أن طبيعة الواقع ، بل تعقيدات الواقع ، لها حسابات خاصة ، حيث تفرض على المرأ حلولاً " نسبية " ، يقارنها بعض السلبيات أو ربما بعض الآلام ، التي تصادم ما كان يتمناه الإنسان ويصبو إليه ، وهذه حقيقةٌ قاهرةٌ غالبةٌ ، لايمكن الفرار منها بحالٍ من الأحوال .    
      نتيجةٌ مما تقدَّم
   والحاصل أن هناك من الناس يظنَّ أنَّ الوقوع في الإخفاق كارثة ، ولذلك تجده يعاني من الرُهاب والقلق البالغ تجاه المآزق التي قد تلحق به عند الأخذ بهذا الخيار أو ذاك ، حتى لوتبين له بعد التأمل والتفكير أن خياره هو الخيار المناسب والسديد .
      ثمَّ إن هذا القلق قد يتضاعف إلى الحد الذي يعيق الإنسان ويعطِّل حافزيته وفاعليته .   
   فالنظرة الصحيحة هي أن يعترف الإنسان ، بينه وبين نفسه ، بإمكانية الوقوع في الإخفاق أو المرور ببعض النتائج السلبية ، والتي لم تكن في الحساب .    
   وتضمن هذه النظرة الموضوعية للمرأ أن "يحدَّ" من المردودات المعنوية للإخفاقات ليقاوم تداعيات اليأس والإحباط . 
      وكما انتهينا إلى تحديد الطريقة السليمة في التعامل مع الأضرار الإضطرارية ، نتطرَّق بالمناسبة إلى ما يتوجب على الإنسان عندما يفكِّر في التخطيط للوصول إلى أرباحٍ أو مكاسب هنا أو هناك .
   فالمنطق الصحيح في التخطيط نحو المكاسب ، أن يكفكف المرأ من تدافع الأرقام الوهمية لنجاحاته المستقبلية ، فإن الغالب ، بحسب طبيعة الأشياء ، أن تأتي نجاحات الإنسان بينَ بين .. فإن الإنسان إذا غابت عنه هذه الحقيقة ، وتدنى مستوى نجاحه ومكاسبه عمّا كان يتوقعه ، داخلته مشاعر الإحباط والإنكسار ، بل ربما تفاعلت في أعماقه إلى مستوى مدمِّرٍ ، ينتهي به إلى تعطيل طاقاته .

أصولٌ في اللياقة الفكرية (2)

 علِّمْ[1] .. ولاتُهوِّمْ !   
   من الأسس المهمة ، التي تقوم عليها الخُطط المثمرة والحراك الهادف ، هو أن تكون الأهداف محدَّدَة بالنسبة إلى صاحبها ، وألَّاتزحف عليها أهدافٌ أخرى ، لتزيحها وتتغلب عليها .  
   ويتضح لنا المقصود من ذلك بدقة ، عندما نرى حال عيَّنةٍ من أولئك الذين لم يتخِّذوا " قراراً " عميقاً تجاه أهدافهم المبرمة ، ولايزالون في طور " الأماني " الباردة والرغبات الطفيفة ، في الوصول إلى الهدف الذي يحلمون به !
   وهذه الدرجة من الإرتباط بالأهداف لاتعطي ضمانةً للوصول ، ولاتحقق الإلتحام المنشود بالمسار المطلوب .
   ونحن في التعبير المتداول نسمِّي هذا النحو من الأمانيَّ الورديَّة " نزوة " ، والإنسان في ظرف وقوعه تحت دفع هذه النزوات ، قد تنوبه رغبةٌ أخرى أوتميل رغباته إلى هدفٍ ثان ، ثم يتجه إلى مسارٍ آخر ، ولايتوقف عند ذلك ،  بل تستزله أمانيه باتجاه مغاير .. وهكذا .. ليبقى الإنسان في نشاطاته مضطرباً هائماً مهوِّماً ، كالطير السارح ، الذي يتجول من فنَنٍ إلى فنَنٍ ، صادحاً مغرِّداً !!  
   فالخلاصة : أنه لابد من التحديد الثابت للأهداف والإرتباط الثابت بها ، بخطىً ثابتةً ، ولذلك قلنا : علِّمْ ولاتهوِّم !
    
   لاتَغلُل فتُغَلّ  
   إذا صادف الإنسانَ تصرفٌ مثيرٌ لغضبه ، ثم لم يتمكن من التنفيس عن غضبه ، لمانعٍ أو لآخر ، فإن مصير ذلك الإنفعال هو الإحتباس في الزوايا الخفية من نفس الإنسان ، فإن لم يكن الإنسان طيِّباً في سريرته ، ولامديراً عاقلاً لمشاعره وانفعالاته ، تحوَّلت تلك الإحتباسات الغاضبة إلى حقدٍ كامن .  
   والإنسان الحاقد بطبيعته مُتعِبٌ ومُتعَب : فهو مترصِّدٌ لغرمائه وخصومه ، ليلتمس عليهم العثرات والزلَّات : مادقَّ منها وما جَلّ ، وهو بحسب هذه النظرة ، عنصرٌ إجتماعيٌ مزعجٌ من الدرجة الأولى ، قادرٌ على اختلاق منازلات وجولات ، لامبرر من ورائها ، ولاحصر لها ولا نهاية .  
   وهو مضافاً إلى ذلك مزعجٌ لنفسه مُبدِّدٌ لراحتها ، وشاغلٌ لها في غير شاغل .. فحيث ينشغلُ العاقل اللبيب بما يجب عليه القيام به ، ينشغل الحاقد الفارغ بمعاركه العبثية وصراعاته الإلهائية .   
   ومن ذلك تتضح اللفتة التي على أساسها سمِّي الحقد " غلّاً " ، حيث إن الغِلُّ هو مايُغَلُّ به ويكون التقييد بواسطته ، فأهل الأحقاد والبغضاء  مملوكون لأحقادهم وشحنائهم النفسية ، مقيَّدون بها ، محرومون مما تفرضه البصيرة على الإنسان ، ومايوجبه الإدراك السويّ ، من التصرُّفات اللائقة والسلوك النبيل .
   والذي يجدر الإلتفات إليه في هذا الصدد والأخذ به ، هو أن الإستفزازات التي نواجهها في الحياة ، وإن كانت تحرِّك شيئاً من الألم في دواخلنا ، ولكن لايصح أن تأخذ منَّا حيِّزاً أكبر مما نستحق ، فضلاً عن أن تسيطر علينا سيطرةً شاملة ، فضلاً عن تتحول ـ لاقدَّر الله ـ إلى سلوكياتٍ ثأريةٍ بشعة .   
   وعلى النقيض تماماً من ذلك سماحة الخلق ، وسلامة الصدر من الأضغان ، وحميمية المشاعر تجاه الآخرين ، وسلوَّ النفس وإعراضها عن شجون الماضي .. فإن ذلك يُعدُّ رصيداً نفسياً رائعاً ، ونعمةً من نعم الله تعالى على أصحاب الأنفس السخية والعقول الراجحة .      
   هنالك حيث يتحوَّل القلب إلى جنَّة غناء ، ويعذُب إحساس الإنسان وتطيب حياته ، ويجدُ فيها سعةً ومتعة ، ويتلذَّذ بما يتاح له من مباهج الحياة وطيِّباتها .    
   وللإنسان كامل الإختيار في أن يكون في هذا الصنف أو ذاك .. في أن يكون مغلولاً وثيقاً ، أو حرَّاً طليقاً .


[1] أي ضع علامة على الهدف وتحرَّك ضمن خطة لها غاية ، ولاتكن هائماً بلا قصد واضح .

أصولٌ في اللياقة الفكرية (3)

    التقدير الذاتي .. أو حجر الزاوية   
   هذه النقطة من الأمور المتناهية في الأهمية فيما يتصل بتحقيق الأهداف وإحراز الإنجازات .. ونحن هاهنا نُعرض إليها شرحاً وتحليلاً ، ليتضح المقصود ، بالضبط ، من مصطلح " التقدير الذاتي " .   
   لكلٍّ منّا في كيانه حظٌ من النقص والعيب ، فليس أحدٌ منا إلا وله عيبٌ ماثل فيه ، إمَّا في هيئته الخِلقية الظاهرة أو في خُلُقه وطباعه .. إمَّا في جوارحه أو جوانحه .. وليس خروجاً عن المألوف أن يُحِسَّ الإنسان بأنَّ هذا النَقص حرمانٌ له من الكمال الذي ينشده ، فالمرأ ـ مثلاً ـ يتمنى قوة البنية إذا افتقر إليها ، كما يتمنى المال إذا كان مُعوِزاً ، وهو إلى ذلك يتمنى قوة الحفظ إذا كان ضعيف الحافظة أو متوسطها ... إلخ .
   ولكنَّ إحساس الإنسان بعيوبه يصل إلى مراحل حادَّة وإلى مراحل مُتأزِمة ، في بعض الحالات ، حيث يتوغل إحساس الإنسان بما فيه من النقص والعيب ، في أعماق النفس ، إلى الحد الذي تنهار معه ثقة الإنسان بذاته ويتآكل إحساسه بأهميتها ، ويضعف إيمانه بجدارته وكفائته في وصوله إلى أهدافه وغاياته .
   ومن الطبيعي أنَّ الإنسان كلَّما كان أشدَّ استغراقاً في آلامه من ناحية نقصه وقصوره ، انخفض منسوب ثقته بذاته وضعف اعتماده عليها ، وهو الأمر الذي سينتهي ، تراكمياً ، إلى انحسار الإندفاع والحماس في أداء الأعمال ، وإلى شيخوخةٍ نفسية ، خاليةٍ من الطموح والفتوة .
   هذه إذن صورة الإنسان المحطَّم معنوياً ، والفاقد للثقة بقدراته .
   ولكننا نجد على النقيض من ذلك صورةً أخرى ، تعبِّر عن حالةٍ معنويةٍ مضادَّة ، حيث يستطيع الإنسان أن يحافظ على مشاعر الإحترام لذاته وأن يؤمن بما فيها من طاقة للوصول إلى الأهداف المنشودة ، وهذه الحالة هي التي نسميها " التقدير الذاتي " .  
   والمسحة التي يتميَّز بها من يمتلك صفة " التقدير الذاتي " هي امتلاكه لـ " الحصانة " النفسية التي تمنع مشاعر الإستهانة بالذات من النفوذ إلى معنوياته وصموده ، بحيث لاتتحول آلام الإنسان الناتجة من عيوبه وخلله ونقصه ، إلى عبإٍ لسحقه وتدميره .
   ولكي تتضح المسألة فلنتناول مثالاً حيَّاً ، ولنسترجع أحوال الناس الذين مررنا بهم في حياتنا .. في مقاعد الدراسة .. أو مصادفةً في الطرق العامَّة ، أو على منصَّات الإلقاء والمحاضرة .. إلخ .. فلنتمثَّلهم في أذهاننا ولنطرح السؤال التالي : ألم نجد لدى بعض هؤلاء إشكاليةً ما في النطق ببعض الحروف ؟  
   بكلِّ تأكيد صادفنا من هؤلاء عيِّناتٍ ، قلّوا أو كثروا .
   بعد ذلك فلنلاحظ هؤلاء لنتبين الفَرقَ بينهم في نظرتهم لذواتهم ، فهل هؤلاء المصابين بمشاكل النطق ، هم على وضعٍ واحد ؟   
   بكلِّ تأكيدٍ ليسوا كذلك .. فهناك أشخاصٌ من المصابين بصعوبةٍ في النطق ، هم في غاية الإنبساط والراحة في التعامل مع الآخرين ، وإجراء حواراتٍ تلفزيونية وإلقاء محاضراتٍ عامَّة ، فيما إذا كانوا من الشخصيات النخبوية ، وهم إلى ذلك يمارسون سائر نشاطاتهم بكلِّ حيوية وفاعلية ، مما يعني أنَّ عقبات النطق لم تكلِّفهم أي عبإٍ نفسي ولم تمثِّل لهم سداً في حياتهم .     
   وعلى النقيض من ذلك تماماً ، ما نجده عند قِسمٍ ممن يعانون من صعوبةٍ في النطق ، حيث نلمس فيهم درجةً مؤلمةً من الإنكسار وانحسار الفاعلية ، وغياب الإستجابة لما يمليه الطموح ممن هو في مثل حالهم ومواهبهم الكامنة .. نعم ، إذ ليس هنالك إنسانٌ فيما نألف ونعرف ، يخلو من موهبةٍ ظاهرةٍ أو كامنة .    
   وكلُّ ذلك التناقض البيِّن في المثالين المتقدِّمين ، هو من رشحات التقدير الذاتي عند أحد الطرفين ، والحاضر بصلابة عند أحدهما ، وغيابه عند الآخر .
   ومن خلال ملاحظة مدى تأثير هذه الخصلة ( التقدير الذاتي ) ، وخطورة امتدادها إلى الوضع المعنوي للإنسان .. يتبين السرَّ في تسميتها بـ "حجر الزاوية " ، كما أسلفنا في عنوان هذا المقطع .

أصولٌ في اللياقة الفكرية (4)

   الــوعـي  
   كثيراً ما نردِّد كلمة "الوعي" ، متنادين لتمثُّل هذا الوصف في أنفسنا .  
   وكثيراً مانسمع عبارةً من قبيل : "فلانٌ من الناس واعٍ" ، فنفهم حين سماع تلك العبارة أنها قيلت في مقام المدح لذلك الشخص أو الإعجاب به .    
   وما من شكٍ أنّها صفةٌ حميدةٌ ، وليس ذلك ممايحتاج إلى تطويلٍ ولاتدليل ، وليس هنالك مسربٌ للشك في أن الإنسان الواعي خيرٌ من غير الواعي .   
   ولكنَّنا قبل أن نتنافس على تحصيل الوعي ، أو أن نتنافس على التسابق في درجاته ، لابد قبل ذلك أن نتسائل عن المقصود من كلمة "الوعي" ، لنتبيِّن المحتوى اللفظي لهذه المفردة ، فنقول في مقام الجواب :   
   نلاحظ عند استعمال هذه الكلمة أنَّها ، في جانبٍ من جوانب استعمالها ، توجَّه إلى قضايا حياة الإنسان المهمَّة ومايتصل بحياته من مشاكل ، فيقال : "فلانٌ واعٍ في التعامل مع مشاكل أبنائه " ، أو : " فلانة تعاملت مع زوجها في فترة مشاكله ومتعابه بما يجب ؛ لأنها كانت واعيةً لتلك المشاكل " .. إلخ .
   هذا ، وإننا لو تبصَّرنا في طريقة استعمال هذه اللفظة ، رابطين بين موارد استعمالها ، لاتضح لنا المرمى من وراء استعمال هذه الكلمة ، في السياق الذي تكون هذه الكلمة مورداً للإعجاب والثناء .   
   ومن أجل أن "نستخرج" المقصود من استعمال هذه الكلمة [1] ، فلنقُم بمقارنةٍ بسيطةٍ للعبارتين التاليتين :  
أ‌)       فلانٌ كان واعياً لمشكلته فحلَّها بنجاح .  
ب‌)  فلانٌ لم يكن واعياً لمشكلته فأخفق في حلِّها .  
   العبارتان واضحتان في مرماهما ، فكل واحدٍ من الشخصين المعنيين كان يعاني مشكلةً ما ، غير أن الأول " وعى " مشكلته فحلَّها لامتلاكه للوعي ، أي أنَّ الحلَّ لم يكن صُدفةً ولاجُزافاً .. أما الطرف الثاني فقد أخفق كما هو واضح لفقدانه للوعي المطلوب بمشكلته .     
   ونحن نعلمُ أنَّ حلَّ المشاكل لايجيء مطاوعاً لكلِّ أحد ، بل لابد من اللياقة الفكرية لتحليل المشكلة وتشريحها ، للوصول إلى " السمة المميزة " لهذه المشكلة بغية الوصول إلى "الحلِّ المناسب" لها .
   وهذا هو الوعي باختصارٍ شديد .. الوعي هو أن تعرف ماهو الشيء الذي بين يديك .. هو أن تعرف مكوِّنات المشكلة الماثلة أمامك في العمق ، لتهتدي إلى الحلِّ الذي تفرضه هذه المشكلة ذات السمة الخاصة .. تلك السمة التي نفذنا إليها بعد تسلحنا بالبصيرة والوعي الكافيين .
   ولمزيدٍ من استيعاب معنى الوعي ، وللتعرُّف إلى أهميته ، نسوق المثال التالي :
   عندما داهمت الحياة المعاصرة مجتمعاتنا ، بما تزخر به من وسائل حديثة كـالمذياع والتلفزيون ، والصحن اللاقط (الدش) ،والذي وفد في فترةٍ متأخرة ، أخذ بعض المتدينين بنيِّةٍ سليمةٍ ودوافع طيبة ، بخيار "المنع" ، ظنَّاً منهم بأنَّ في وسعهم "السيطرة" على هذا الوافد الجديد ، ليكون تداول هذه الأجهزة محدوداً ، أو ممنوعاً في الحدِّ الأحسن ، وذلك غاية المنى في نظر أصحابنا هؤلاء . هذا إذن ماكانت تتوسمه شريحةٌ إجتماعيةٌ من أنه سيكون الصورة الآتية للمجتمع المتدين وأن المسار المستقبلي ذاهب إلى تلك الغاية .   
   ولكنَّ الأمر ، كما نعرف جميعاً ، ذهب إلى النقيض من ذلك ، حيث صارت هذه الأجهزة جزءاً مهمَّاً من حياة الناس ، وأصبحت مصدراً لمتعتهم وللإطلاع على مايفيدهم من قضايا الحياة ومستجداتها ، ووسيلةً أساسيةً للإتصال بالعالم ، مما يعني أن أي محاولة للتفكير بعزل الناس عن هذه الأجهزة ستكون أمراً متعذِّراً ، بل ربما كانت مثاراً للسخرية ، بل فرصةً ذهبيةً لإلصاق سمة التخلف والرجعية لمن يسعى إلى ذلك .    
   ولكي نتعرف إلى النقطة اللائقة التي سيقف عليها الإنسان الواعي في مثل هذا الموضوع ، لابد من استعادة عنصرٍ أساسيٍ ذكرناه ، وهو أن الإنسان الواعي ، صاحب البصيرة الوقَّادة ، لابد أن يشرِّح القضية التي تواجهه ، من أجل أن يمسك بالجانب العميق في الموضوع ، والذي يرتكز الحل على استحضاره وتسجيله . فما هو الجانب الأهم في مثل القضية التي بين أيدينا ، والتي سيتوقف عليه تحديد الموقف اللائق من الأجهزة الحديثة ؟   
   والجواب فيما نحسب ونعتقد يتوقف على أن نعرف موقعنا الحقيقي في واقع العالم الذي نعيشه : فهل نحن الطرف الأقوى في هذا العالم أم الأضعف ؟ هل نحن الطرف المؤثر أم المتأثِّر ؟ هل نحن الطرف الذي يُحدِّد سمةَ العصر الذي يعيش بداخله أم نحن الطرف الذي يُدفعُ إلى سِماتٍ حضاريةٍ تُحدَّدُ له ، ليجد نفسه منحدراً إلى قرارها ؟   
   إن مثلَ هذه الأسئلة لايمكن أن تغادِرَ ـ فيما نحسب ـ من يريد أن يصل إلى حلولٍ واقعيةٍ ومصيبةٍ لمثل هذه المسائل .  
   ذلك أن الإنسان العاقل ، الواعي لما يقول أو للقضية التي يريد أن يعالجها ، عليه أن يحدِّد أولاً إمكانية معارضة هذا التطور الحاصل ، ومدى تأثير خيار الرفض والممانعة .   
   فإن لم يكن للرفض وقعٌ ولا تأثير ، وإذا كنا الطرف الأضعف حضارياً والأقل تأثيراً ، فلامعنى لاستنزاف الطاقات في الهتاف والإفاضات الإنشائية تحشيداً لمقاطعة هذه المنتجات الحضارية ، وإذا لم نكن قادرين على ضبط إيقاع التأثر الحضاري ، كما أثبتت التجارب المتلاحقة ، فلأي شيءٍ تُستنزف الطاقات ويمُارس التحشيد النفسي[2] ؟!
   ومن ذلك نتبين معنى الوعي وفائدة تعميقه : فهو الضمانة على تحديد الزاوية المناسبة لدراسة قضايانا والنظر فيها ، لتحديد الموقف اللائق منها [3] . 
   ونضيف أن تعميق النظر الواعي والقوة في استحضار الخيارات الواعية والإلحاح على تطبيقها ، يضمن لنا السلوك الصائب ، ويقينا من التخبط والضياع بين الأفكار الركيكة ، ويحصِّننا من تراكم المضاعفات الضارَّة للخيارات الخاطئة .
   بقي أن نلفت الأنظار إلى شيءٍ مهم في تحديد الوعي وفق المعنى المطلوب ، الذي يتجلى فيه النضج واللياقة الفكرية ، وهو أن الوعي بما يمثِّله من نظرٍ سديد للقضايا المختلِفة ، يختصُّ بالنضج الفكري الذي يأتي في لحظة التحدي .. في لحظة اشتجار الآراء ، ليحدِّد لنا الخيار المناسب في قضايانا المتنوِّعة ، ولنتّقي به التبعات الضارَّة والفادحة للخيارات السيئة ، مما يعني أنَّ إدراك الخيار السديد والمناسب بعد تحقق السقطات الحضاريِّة أو السقوط الفردي ، لايُعدُّ إدراكاً واعياً ولا محموداً ؛ إذ في تلك اللحظة وبعد قوع الفأس في الرأس ـ كما يقال ـ سيتساوى الجميع في معرفة مآلات الأمور : سواء من كان في غاية النضج والبصيرة ومن لم يكن له في الحصافة والوعي شروى نقير !


[1] في حدود الإستعمالات المتقدِّمة .
[2] لايعني ذلك بحالٍ من الأحوال القبول بالإستسلام والرضا بالإستلاب لكلِّ مايفد من خارج مسلكنا الحضاري والفكري ، فليس في الكلام تعميمٌ بقبول كلِّ شيء .
[3] هذا كما يقال من تعريف الشيء بلازمه ، أي من خلال الأمور المترتبة عليه .

أصول في اللياقة الفكرية (5)



   الإصغــــــــــاء  
   الإصغاء وسيلةٌ مهمَّةٌ من للإتصال بما يدور حولنا ولما يقال ويثار ، ولما يعنينا من قضايا الحياة ، ولما يرجع إلى منافعنا المؤثرة .     
   يظنُّ البعض أنَّ الإلقاء موهبةٌ استثنائيةٌ : يختص بها فريقٌ من الناس وتُحرَمُ منه الغالبية ، أمَّا الإصغاء فالناس فيه كأسنان المشط .   
   وهذا في الواقع خلط بين السمع ، والذي هو فاعليةٌ يحوزها كل من كان له جهاز سمعيٌ سليمٌ ، وبين الإصغاء الذي يعني " الإتصال المثمر " بالآخرين .   
   ونحن جميعاً نلاحظ في كثيرٍ من الحالات ـ نتيجة غياب الإصغاء الفاعل ـ  أناساً يتناقشون ولاتفلح نقاشاتهم ، أو يتحاورون فتتعثر حواراتهم .  
   وهؤلاء ليس من الضرورة أنهم ليسوا أهل خُلقٍ أو أنَّهم يهدفون إلى استفزاز الآخرين أو إضاعة الأوقات ، ولكنَّ الإصغاء فنٌ له أصول ، والدخول إلى حواراتٍ مثمرةٍ له شروط تُنجحه ، وموانع تصدُّه عن النجاح .  
   ونحن من خلال النقاط التالية ، متعرِّضون إلى نمطين إشكاليين لبعض العراقيل التي تعيق محاوراتنا عن الوصول إلى الغاية ، وتحرمنا من الإصغاء والإستقبال المنشود . 
   وسيتأكد لنا بعد التعرُّض لهذين النمطين الإشكاليين أن الإصغاء أمرٌ يستحق التخطيط والبناء ، وأنه نشاطٌ يستحق التنظيم ، ذو مآخذ لطيفة .   
1)   غياب الفهم الدقيق :
يتعثر النقاش أحياناً نتيجة أنَّ أحد طرفي النقاش لم يفهم الطرف الآخر .
وليس الفهم هنا هو الفهم الذي يقف حائلاً بين المختلِفين في الإنتماء اللغوي .  
   بل المقصود هو توجيه النفس للمعنى الذي يقصده المتحدِّث ، لا المعنى الذي تنساق إليه أذهاننا للوهلة الأولى .    
   وكمثالٍ بسيطٍ ومجرَّبٍ على ذلك ، مانشاهده في الحالات التي يجتمع فيها أفرادٌ مختلفون في مجلسٍ واحد ، حيث نجد أنَّ أحد الحاضرين يطالب بتشغيل جهاز التبريد (المكيِّف ) لأنَّه "يشعر بالحرارة " .  
   وهنا ربَّما لايعترض الحاضرون على هذا الخيار ، ولكنهم قد يستغربون ، أو يستغرب البعض منهم على هذا الطلب ؛ لأنَّ درجة الحرارة غير مرتفعة ، بل معتدلةٌ جداً ، فما هو السبب وراء الدعوة إلى تشغيل جهز التكييف .   
   وهذا المثال على الرغم من بساطته ، إلَّا أنه ذو مجالٍ تطبيقيٍ واسع ، ذلك أنَّ استيعابه سيلفتنا إلى السرّ وراء عدم انتقال بعض تصوراتنا ومشاعرنا أثناء اللقاآت والأحاديث المتبادلة .    
   فنقول : إنا لو دققنا في المثال المتقدِّم ، لوجدنا أنَّ المتسائل المستغرب لم يفهم الطلب على الوجه الدقيق ، ذلك أنَّ من كان يطلب تشغيل المكيِّف ، لم " يصف " الجوَّ بالحرارة ، بل أخبر بأنه هو " يشعر " بالحرّ ، صارفاً النظر عن الإخبار بدرجة الحرارة ، وغير ملتفتٍ إلى شعور المحيطين الخاصِّ بهم .   
   أي انه كان يتحدث عن شيءٍ لم ينتبهوا إليه ، واستغربوا من شيءٍ لم يقصده !  
   وهذا مثالٌ مصغّرٌ لقضيةٍ عابرة ، لوتأمَّله الإنسان لوجد خيطاً رفيعاً يصل هذا المثال بأمثلةٍ أخرى من واقع الحياة ، ترتبط بقضايا أكثر أهمية .. فالعبرة بأهمية الخلفية الفكرية للمثال ، لابدرجة أهميته .
   وهذه الآفة في الإصغاء ، على الرغم من أنَّها في غاية الوضوح بعد الشرح ولفت الإنتباه ، إلَّا أنها تكون في غاية الغياب عن الشعور أثناء التطبيق العملي ، فالوقوع في اللبس بين المتعاشرين بسببها ، في غاية السهولة .
2)   تفاوت النضج الفكري :  
   الفكر الإنساني له أطوار تشابه أطوار الكائنات الحية من حولنا ، فهو يقبل التطور والتربية ، وينمو ويثمر كما تنمو الغراس والزرع وكما يثمران .
   ولايتوقف الأمر عند النمو والثراء فحسب ، بل إنَّ ما كان قبل الوصول إلى النضج الفكري منكراً ، أصبح بعد سطوع الفكرة العلمية أمراً صحيحاً مُسنَداً .