الــوعـي
كثيراً ما نردِّد كلمة "الوعي" ، متنادين لتمثُّل هذا الوصف في أنفسنا .
وكثيراً مانسمع عبارةً من قبيل : "فلانٌ من الناس واعٍ" ، فنفهم حين سماع تلك العبارة أنها قيلت في مقام المدح لذلك الشخص أو الإعجاب به .
وما من شكٍ أنّها صفةٌ حميدةٌ ، وليس ذلك ممايحتاج إلى تطويلٍ ولاتدليل ، وليس هنالك مسربٌ للشك في أن الإنسان الواعي خيرٌ من غير الواعي .
ولكنَّنا قبل أن نتنافس على تحصيل الوعي ، أو أن نتنافس على التسابق في درجاته ، لابد قبل ذلك أن نتسائل عن المقصود من كلمة "الوعي" ، لنتبيِّن المحتوى اللفظي لهذه المفردة ، فنقول في مقام الجواب :
نلاحظ عند استعمال هذه الكلمة أنَّها ، في جانبٍ من جوانب استعمالها ، توجَّه إلى قضايا حياة الإنسان المهمَّة ومايتصل بحياته من مشاكل ، فيقال : "فلانٌ واعٍ في التعامل مع مشاكل أبنائه " ، أو : " فلانة تعاملت مع زوجها في فترة مشاكله ومتعابه بما يجب ؛ لأنها كانت واعيةً لتلك المشاكل " .. إلخ .
هذا ، وإننا لو تبصَّرنا في طريقة استعمال هذه اللفظة ، رابطين بين موارد استعمالها ، لاتضح لنا المرمى من وراء استعمال هذه الكلمة ، في السياق الذي تكون هذه الكلمة مورداً للإعجاب والثناء .
ومن أجل أن "نستخرج" المقصود من استعمال هذه الكلمة ، فلنقُم بمقارنةٍ بسيطةٍ للعبارتين التاليتين :
أ) فلانٌ كان واعياً لمشكلته فحلَّها بنجاح .
ب) فلانٌ لم يكن واعياً لمشكلته فأخفق في حلِّها .
العبارتان واضحتان في مرماهما ، فكل واحدٍ من الشخصين المعنيين كان يعاني مشكلةً ما ، غير أن الأول " وعى " مشكلته فحلَّها لامتلاكه للوعي ، أي أنَّ الحلَّ لم يكن صُدفةً ولاجُزافاً .. أما الطرف الثاني فقد أخفق كما هو واضح لفقدانه للوعي المطلوب بمشكلته .
ونحن نعلمُ أنَّ حلَّ المشاكل لايجيء مطاوعاً لكلِّ أحد ، بل لابد من اللياقة الفكرية لتحليل المشكلة وتشريحها ، للوصول إلى " السمة المميزة " لهذه المشكلة بغية الوصول إلى "الحلِّ المناسب" لها .
وهذا هو الوعي باختصارٍ شديد .. الوعي هو أن تعرف ماهو الشيء الذي بين يديك .. هو أن تعرف مكوِّنات المشكلة الماثلة أمامك في العمق ، لتهتدي إلى الحلِّ الذي تفرضه هذه المشكلة ذات السمة الخاصة .. تلك السمة التي نفذنا إليها بعد تسلحنا بالبصيرة والوعي الكافيين .
ولمزيدٍ من استيعاب معنى الوعي ، وللتعرُّف إلى أهميته ، نسوق المثال التالي :
عندما داهمت الحياة المعاصرة مجتمعاتنا ، بما تزخر به من وسائل حديثة كـالمذياع والتلفزيون ، والصحن اللاقط (الدش) ،والذي وفد في فترةٍ متأخرة ، أخذ بعض المتدينين بنيِّةٍ سليمةٍ ودوافع طيبة ، بخيار "المنع" ، ظنَّاً منهم بأنَّ في وسعهم "السيطرة" على هذا الوافد الجديد ، ليكون تداول هذه الأجهزة محدوداً ، أو ممنوعاً في الحدِّ الأحسن ، وذلك غاية المنى في نظر أصحابنا هؤلاء . هذا إذن ماكانت تتوسمه شريحةٌ إجتماعيةٌ من أنه سيكون الصورة الآتية للمجتمع المتدين وأن المسار المستقبلي ذاهب إلى تلك الغاية .
ولكنَّ الأمر ، كما نعرف جميعاً ، ذهب إلى النقيض من ذلك ، حيث صارت هذه الأجهزة جزءاً مهمَّاً من حياة الناس ، وأصبحت مصدراً لمتعتهم وللإطلاع على مايفيدهم من قضايا الحياة ومستجداتها ، ووسيلةً أساسيةً للإتصال بالعالم ، مما يعني أن أي محاولة للتفكير بعزل الناس عن هذه الأجهزة ستكون أمراً متعذِّراً ، بل ربما كانت مثاراً للسخرية ، بل فرصةً ذهبيةً لإلصاق سمة التخلف والرجعية لمن يسعى إلى ذلك .
ولكي نتعرف إلى النقطة اللائقة التي سيقف عليها الإنسان الواعي في مثل هذا الموضوع ، لابد من استعادة عنصرٍ أساسيٍ ذكرناه ، وهو أن الإنسان الواعي ، صاحب البصيرة الوقَّادة ، لابد أن يشرِّح القضية التي تواجهه ، من أجل أن يمسك بالجانب العميق في الموضوع ، والذي يرتكز الحل على استحضاره وتسجيله . فما هو الجانب الأهم في مثل القضية التي بين أيدينا ، والتي سيتوقف عليه تحديد الموقف اللائق من الأجهزة الحديثة ؟
والجواب فيما نحسب ونعتقد يتوقف على أن نعرف موقعنا الحقيقي في واقع العالم الذي نعيشه : فهل نحن الطرف الأقوى في هذا العالم أم الأضعف ؟ هل نحن الطرف المؤثر أم المتأثِّر ؟ هل نحن الطرف الذي يُحدِّد سمةَ العصر الذي يعيش بداخله أم نحن الطرف الذي يُدفعُ إلى سِماتٍ حضاريةٍ تُحدَّدُ له ، ليجد نفسه منحدراً إلى قرارها ؟
إن مثلَ هذه الأسئلة لايمكن أن تغادِرَ ـ فيما نحسب ـ من يريد أن يصل إلى حلولٍ واقعيةٍ ومصيبةٍ لمثل هذه المسائل .
ذلك أن الإنسان العاقل ، الواعي لما يقول أو للقضية التي يريد أن يعالجها ، عليه أن يحدِّد أولاً إمكانية معارضة هذا التطور الحاصل ، ومدى تأثير خيار الرفض والممانعة .
فإن لم يكن للرفض وقعٌ ولا تأثير ، وإذا كنا الطرف الأضعف حضارياً والأقل تأثيراً ، فلامعنى لاستنزاف الطاقات في الهتاف والإفاضات الإنشائية تحشيداً لمقاطعة هذه المنتجات الحضارية ، وإذا لم نكن قادرين على ضبط إيقاع التأثر الحضاري ، كما أثبتت التجارب المتلاحقة ، فلأي شيءٍ تُستنزف الطاقات ويمُارس التحشيد النفسي ؟!
ومن ذلك نتبين معنى الوعي وفائدة تعميقه : فهو الضمانة على تحديد الزاوية المناسبة لدراسة قضايانا والنظر فيها ، لتحديد الموقف اللائق منها .
ونضيف أن تعميق النظر الواعي والقوة في استحضار الخيارات الواعية والإلحاح على تطبيقها ، يضمن لنا السلوك الصائب ، ويقينا من التخبط والضياع بين الأفكار الركيكة ، ويحصِّننا من تراكم المضاعفات الضارَّة للخيارات الخاطئة .
بقي أن نلفت الأنظار إلى شيءٍ مهم في تحديد الوعي وفق المعنى المطلوب ، الذي يتجلى فيه النضج واللياقة الفكرية ، وهو أن الوعي بما يمثِّله من نظرٍ سديد للقضايا المختلِفة ، يختصُّ بالنضج الفكري الذي يأتي في لحظة التحدي .. في لحظة اشتجار الآراء ، ليحدِّد لنا الخيار المناسب في قضايانا المتنوِّعة ، ولنتّقي به التبعات الضارَّة والفادحة للخيارات السيئة ، مما يعني أنَّ إدراك الخيار السديد والمناسب بعد تحقق السقطات الحضاريِّة أو السقوط الفردي ، لايُعدُّ إدراكاً واعياً ولا محموداً ؛ إذ في تلك اللحظة وبعد قوع الفأس في الرأس ـ كما يقال ـ سيتساوى الجميع في معرفة مآلات الأمور : سواء من كان في غاية النضج والبصيرة ومن لم يكن له في الحصافة والوعي شروى نقير !